وأوضح من ذلك: الصلاة، فهي مثال واضح لحقيقة الإيمان، فإذا أردت أن تعرف حقيقة الإيمان عند أهل السنة والجماعة فخذ مثالاً واضحاً لا اختلاف بيننا وبينهم فيه، وهو الصلاة، فهي أعظم الأركان العملية في حياة المؤمن وفي عقيدته، فانظر إلى ظاهر الصلاة وباطن الصلاة وأقوال الصلاة وأعمال الصلاة، فكذلك الإيمان، فباطن الصلاة هو الإخلاص لله تعالى، فيصلي صادقاً لا كاذباً، يصلي موقناً لا شاكاً فيها، ثم يصحب ذلك الخشية والطمأنينة، وهكذا في أفعالها وأقوالها، فهذا جانب باطن، والجانب الظاهر: الركوع والسجود والقيام، والجانب القولي: التكبير وقراءة الفاتحة وغيرها، فكلها يتركب منها شيء واحد هو الصلاة، ولا تستطيع أن تفرق بين البعض والبعض في الحالة الصحيحة، فلو أن شخصاً أتى وكبر وقرأ الفاتحة وهو لا يريد الصلاة، ولا يرجو ما عند الله، ولا يؤمن بها، فإن هذا في الحقيقة غير مصلٍ، وهو ما نسميه منافقاً بالنسبة للإيمان الذي في ظاهره يظهر أعمال الإسلام وهو في الحقيقة غير مؤمن، وإنما هو كاذب في دعوى الإيمان، ولذلك أعظم وصف يوصف به المنافق: كاذب، قال تعالى: (( وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ))[التوبة:107] وقال في آخر التوبة: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ))[التوبة:119]، بعد أن بين أحوال المنافقين في هذه السورة أظهر وصفاً للمنافقين هو الكذب؛ لأنه يظهر خلاف ما يبطن والعكس، فهل يمكن أن يكون أحد خاشعاً في صلاته، مخلصاً يخشى الله، ويرجو ما عنده، وموقناً مصدقاً بها، وكل هذه الأعمال القلبية موجودة لديه، ثم لا يظهر أثر ذلك على جوارحه، بمعنى: أنك لو رأيت إنساناً يعبث ويتلفت ويتحرك في صلاته، فهل تستطيع أن تقول: إن لديه خشوعاً وطمأنينة وخشية؟ لا يمكن ذلك، ولهذا قال بعض السلف: (لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه) فالباطن إذا وجد يستلزم الظاهر ولا بد، أما الظاهر فقد يوجد من غير باطن، فلو فصلنا وجزأنا هذا الباطن لكان ذلك أشد، إذ إنه يمكن أن يوجد أصل نسميه: أصل الباطن، مثل: أصل الصلاة، إذ يشترك فيها الناس كلهم، والتفاضل بينهم إنما هو في الأركان وفي المتسحبات، فكيف يفهم هذا الكلام؟ نقول: الصلاة يتفاوت فيها الناس، فمنهم من يصلي بخشوع وطمأنينة، ومنهم من لا يصلي كذلك، لكن ما الأصل الذي يشتركون فيه؟ في الحقيقة لا يشتركون إلا في اسم الصلاة، أي: أن هذا مصل -في الاسم- فقط، أما من حيث الحقيقة فلا يتفقون ولا يشتركون في شيء، بل نقول: يتفاوت أهل الصلاة في الصلاة، وكذلك أهل الحج يتفاوتون؛ لأن الحج يشمل أعمال ظاهرة وباطنة، وكذلك الصوم، مع أنه أقرب أن يكون عملاً باطناً، لكن في الحقيقة يظهر أثر التفاوت فيما بينهم على الجوارح، وحقائق القلب أيضاً متفاوتة.
إذاً لا يوجد عمل من أعمال الإيمان إلا وأهله يتفاوتون فيه، فكذلك أصل الإيمان وأصل الدين، إذ أهله متفاوتون فيه، فقول الشيخ: (والإيمان واحد) خطأ، إذ ليس الإيمان واحداً، بل الإيمان متفاوت.